مبدأ الحكامة الجيدة كما يمكن أن ينسحب على قطاع الأمن، فإنه في نفس الوقت يمكن أن يلامس قطاعات حيوية ذات استراتيجية كبيرة تهم بالخصوص الحقوق الاجتماعية كالتعليم والصحة والسكن والتشغيل، وبالنسبة لقضية دمقرطة القطاع الأمني فقد ظلت مغيبة عن النقاش السياسي لاعتبارات تختلف من نظام سياسي لآخر، فالمؤسسة الأمنية كمؤسسة اجتماعية تعتبر صورة مصغرة للمجتمع، حيث لا يمكن أن نتصور انتقالا ديمقراطيا في مجتمع ما دون التساؤل عن موقع هذه المؤسسة في صيرورة هذا الانتقال، وعن طبيعة العلاقة بين المدنيين والعسكريين، باعتبار أن المؤسسة الأمنية تشكل قطاعا عريضا داخل الدولة بحكم مؤهلاتها العددية، وبحكم الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية لكبار موظفيها.
غداة حصول المغرب على الاستقلال تم الإعلان الملكي عن تأسيس القوات المسلحة الملكية في 14 ماي 1956، وبعدها بيومين فقط كان الإعلان الملكي أيضا عن نشأة جهاز الأمن الوطني في 16 ماي من نفس السنة، ونظرا للصراعات الحادة التي عرفتها بلادنا خلال هذه الفترة الشديدة الحساسية بين مجموعة من المكونات تهم بالأساس قضايا الاستقلال والمشاركة السياسية والتداول على استلام السلطة ، فقد نتج عنه خروقات واكبها حصول تراجعات فظيعة على مستوى الضمانات القانونية ذات الصلة بالحريات العامة وحقوق الإنسان.
لذلك يكون من الخطأ الجسيم بمكان، من يعتبر أن التجاوزات والاختلالات التي طبعت هذه الفترة إنما هي من تدبير الأجهزة الأمنية التابعة للدولة بمفردها، بل هي مسؤولية جماعية ومشتركة بين العديد من العناصر الفاعلة في القطاع الأمني بأكمله، مما يحيل على النقاش الذي كان يروم تسليط الضوء على مدى شرعية أولا شرعية العنف الممارس آنذاك، وقد تمكنت هيئة الإنصاف والمصالحة من بلورة موقفها الشجاع والواضح بهذا الخصوص، في أحد دراساتها حول السياق التاريخي للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب.
هذه الدراسة نصت على : ” … أن الانتهاكات الحاصلة مابين 1956 و1999 كانت في جزء كبير منها مرتبطة بخوف الجهات المتنازعة على مصالحها أو على ما هو منوط بكل واحدة منها من المهام التاريخية، فقد كان من الطبيعي أن تخاف الدولة على استقرار البلاد ووحدة ترابها، وتخاف المعارضة الوطنية على مصير الديمقراطية والجناح اليساري فيها على وتيرة التقدم والحداثة، وتخاف الحركة الإسلامية على الأصالة والموروث الديني والثقافي، وتخاف الجماهير الشعبية من عجزها عن التحرر من التهميش والحرمان، ولعل اصطدام هذه السلسلة من المخاوف بعضها ببعض هو ما أدى بالجميع إلى إخراج بعد حقوق الإنسان من المعادلة …”.
ويمكن اعتبار 1993 سنة البدء في تدشين الإصلاح الأول داخل المؤسسة الأمنية بالمغرب، فقد تزامن ذلك مع قضية عميد الأمن الممتاز محمد مصطفى ثابت، بحيث كانت قضيته أحد المداخيل الأساسية التي وجدها المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني جد مناسبة للشروع في إجراءات التغيير وتطهير مؤسسة الأمن من الداخل، وفي نفس الوقت إعادة الاعتبار لرجال الشرطة ،عبر إلقائه لخطاب تم توجيهه للأمة في الموضوع، كان من بين ما تضمنه استدلاله ببيت شعري للمتنبي قال فيه:
وجرم جره سفهاء قوم ** فحل بغير جارمه العقاب
خاصة وأن البلاد كانت تمر آنذاك بنوع من الاحتقان الاجتماعي بسبب مخلفات آثار الجفاف واعتقال المناضل النقابي محمد نوبير الأموي، واستعداد السلطة السياسية العليا لخوض غمار تجربة التناوب الأولى مع حزب الاتحاد الاشتراكي الذي اكتوى بجمر سنوات الرصاص والتي لم يكتب لها النجاح، وبالتالي لا يمكن تبسيط قضية وطنية من هذا الحجم واختزالها في شكاية عرضتها سيدة قام العميد ثابت باختطافها واحتجازها وهتك عرضها بالعنف.
كما اتسم مجال الحكامة الأمنية بندرة الدراسات والأبحاث الأكاديمية والحقوقية المنجزة حول هذا الموضوع، إذا استثنينا الدراسة التي أصدرها الدكتور والإطار الأمني السابق ميلودي حمدوشي حول (الأمن الوطني المغربي) التي تم إصدارها ضمن منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية في سنة 2002 ، والمناظرات الحقوقية التي دأب على تنظيمها مركز حقوق الإنسان والديمقراطية، والتوصيات التي قدمتها هيئة الإنصاف والمصالحة حول الإصلاح المؤسساتي بشكل عام وضمنها إصلاح مؤسسة الأمن التي على ضوئها تمت لأول مرة دسترة المجلس الأعلى للأمن، إذ من شأن الإصلاح الذي يهتم بالعدالة الانتقالية أنه لا يخدم مصلحة العدالة الانتقالية فقط، بل يخدم مصلحة الأمن نفسه الذي يقوي شرعيته ويحوله إلى مرفق عمومي يحظى بالاحترام، ويعزز العلاقة بين عامة المواطنين وقطاع الأمن.
كما أن التصريح القوي لجلالة الملك محمد السادس ” لا أريد شرطة سياسية ” في الخطاب التوجيهي لجلالته، بعد تعيينه مديرا جديدا لمديرية مراقبة التراب الوطني خلفا للسيد علابوش، شكل منعطفا حاسما نحو التحول في مسار هذا الجهاز، وانطلاقا من هذه الإجراءات والمبادرات السياسية والحقوقية التي استهدفت بالخصوص التفكيك التدريجي لشبكة الأمن البصرية والتمهيد لإضفاء طابع مدني ملحوظ على المؤسسة الأمنية، فقد ذكر الدكتور محمد شقير في كتابه ” المؤسسة الأمنية بالمغرب ” بناء على مصادر مطلعة، أن هيكلة المديرية العامة لإدارة مراقبة التراب الوطني، ستكون أقرب إلى هيكلة إدارة ” ديستي ” الفرنسية، ففي فرنسا مقرات ” ديستي ” الرئيسية يعلن عن أماكنها، وبإمكان المواطنين التقدم إليها والاستفسار عن أي معلومات، دون أن ينسينا الأمر الجدل الوطني الذي احتدم حول القانون الذي يمنح لضباط مديرية التراب الوطني الصفة الضبطية لممارسة اختصاصات الشرطة القضائية.
وكذلك مؤشرات التجديد المختلفة التي طالت مؤخرا المؤسسة الأمنية بالمغرب، من قبيل السماح للعنصر النسائي في قطاع الأمن الظهور والقيام بالتنظيم في الأماكن العامة، والانفتاح على فعاليات ومكونات المجتمع المدني، وإقامة شراكات خاصة مع المؤسسات التربوية تهم مسألة التوعية ببعض المظاهر الخطيرة المهددة للصحة وفضيلة الأخلاق، وكذلك التنسيق مع المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان بخصوص التدريب والتكوين في مجال ثقافة حقوق الإنسان، مع المشاركة في البرامج التي تبثها قنوات الإعلام الوطني، وفي بعض الندوات الهامة خاصة منها ذات الصبغة القانونية القائمة على مبدأي التحسيس والتوعية.
أما تونس الشقيقة صاحبة مبادرة هيئة الكرامة والحقيقة التي اقتدت فيها بالتجربة المغربية الرائدة، فقد أقدمت بعد أحداث الربيع العربي في 2011 على سن مجموعة من الإصلاحات الشبيهة بنظيرتها المغربية، حيث حاولت القطع مع منطق البوليس السياسي، وسعي جهازها الأمني الظهور بصورة جديدة تمثلت في تغيير الأزياء النظامية لإطاراته وأعوانه، كما وقع استبدال السيارات الأمنية بأخرى جديدة وبألوان مغايرة، وجرى أيضا إصلاح هندسة كثير من المراكز الأمنية، وإذا كانت تجربة الإصلاح بالمغرب قد سمحت للأمنيين بتأسيس جمعيات ووداديات على غرار القضاة، فإن تونس وقعت في منزلق هدد مسارها الإصلاحي الجرئ ، وذلك حينما أصدرت حكومتها قرارا يقضي بمنح الحق النقابي لقوات الأمن، وهو الإجراء الذي اتضح أنه مشوب بالتسرع واستباق المسار المتدرج للإصلاح الذي يفرض التقدم إلى الأمام بخطوات ثابتة، خاصة وأن هذه الخطوة أوقعت جهاز الأمن التونسي في نوع من الارتباك والانقسام بين صفوف رجالاته وأطره، نظرا لتعدد الألوان النقابية وتطلع كل واحد منها إلى استفراده بالمشروعية دون الآخر، وأدهى ما في الأمر كون بعض الأجهزة الأمنية أضربت عن العمل في فترة حساسة، مما أثر على السير العادي لهذا المرفق الحيوي بتونس.
تعليقات الزوار ( 0 )