يبدو الشعب الفرنسي تحديدا غير راض على درجة التطور الذي شهدته الحياة السياسية والتي خرجت عن تأطير المفكرين الكبار لمفهوم الدولة ومفهوم السيادة ومفهوم حقوق الانسان .
ذلك ان التعبير الشعبي بارتداء السترات الصفراء يدل على رفض ركوب الاحزاب على موجة التعبير الغاضبة من قبل الشعب الفرنسي ورفضه لاي مرور الى المؤسسة البرلمانية او غيرها باسم الشعب، وبالتالي تحرير السيادة الشعبية من اية تمثيلية وجعلها مباشرة وبدون وساطة سياسية لاسيما وان الديمقراطية بلا ديمقراطيين لألان تورين Alin tourin هي التي دفعت بالمواطن الفرنسي الى تأدية الضريبة على الحقوق المنزوعة من البورجوازية و المكتوبة بدماء الثوار الفرنسيين 1789 .
ان خوصصة حقوق الانسان اقفد الدولة قيمتها واصبحت راعية للمفوض اليهم تدبير حقوق المواطن الاساسية مما زاد في تكلفة الحياة وابتعدت الدولة كمسؤول مباشر عن الحفاظ على سيادة الشعب كما أطر ذلك جون جاك روسو.
ان تطور مفهوم الدولة من الدولة المتسلطة الى الدولة المتعاقدة ثم الدولة المتدخلة ثم الدولة الدركية ثم الدولة المقاولة والآن دخلت مرحلة الدولة الفوضوية … مما يدل على ان الشعوب بدون دولة قائمة على صيانة حقوق الشعب لا يمكنها ان تحظى بالقبول في مقابل المناداة بمبدأ الدولة هي الشعب والدولة اوجدها الشعب …
ان السياق العالمي يبين ايضا ان فرنسا تراجعت عن مكانتها في ما يتعلق بالحفاظ على مستوى المواطن الفرنسي الاقتصادي والسياسي الدولي. وعليه فان الاحتجاجات سوف تكون أخطر كلما تأخرت المؤسسات في التجاوب مع صوت الشعب وسوف يكون لذلك انعكاسات على كل اوربا وايضا خارجها .. وقد يؤثر ذلك على الاتحاد الاوربي بدليل ان انسحاب ابريطانيا منه ليس الا دليلا على وجود مؤشرات على تغييرات مقبلة ربما يكون من ورائها احداث كبرى …
كما ان الوضع في فرنسا قد يأخذ عدة اتجاهات دفعة واحدة منها ما سيدفع فرنسا الى التغيير السياسي الجذري وانهاء الاصلاحات التي مست بقانون الثورة الفرنسية وشريعة اعلان حقوق الانسان والمواطن .. ومنها ما قد يصب في اتجاه استهداف البعد الديني المتنوع في اوربا … كما قد يسير في اتجاه اعادة السياسيين الراديكاليين والمتشددين الى الحكم .. وقد تختلط الاوراق في كل اوربا وتكون موجة تغيير كبيرة ومن بين الاحتمالات احياء نزاعات القرن العشرون .
لقد كتب هيربرت سبنسر البريطاني كتابا تحت عنوان ( الرجل ضد الدولة) يتحدث فيه عن مساوئ الدولة الراسمالية من خلال صراع الفرد مع الدولة ومواجهتها … واليوم يبدو ان الرجل الذي يظهر ضد الدولة وصل الى رئاستها وبسبب نفس العقلية والهدف أصبحت الدولة ضد نفسها .
ان انتقال الاحتجاجات وبنفس الكيفية الى بلجيكا يدل على الرغبة في تعميم الامر على الدول الاوربية وهذا سيفتح الباب امام ابعاد الحكام عن السلطة أو محاكمتهم بسبب قرارات المواجهات والاعتقالات والوسائل المستعملة ضدا في التعبيرات التي تؤمن بها الشعوب الاوربية كعقيدة راسخة واساس الشخصية الاوربية .
ان الامر لا يعدو مجرد التعبير عن مطلب بل ان الامر يتعلق بانفلات مضمون العقد الاجتماعي عن مساره وتسجيل قوة حضور فرنسا على الساحة الدولية بشكل محتشم وفقدانها للمواقف التي تناسب مستوى الفيتو الدولي … وأيضا فرنسا القضاء والقانون والادارة التي تضمن الرفاه .
ان مطالبة الشعب بتنحية الرئيس الفرنسي ..وبالنظر الى ما اقدم عليه المحتجون من أعمال من قبيل محاولة اغلاق باب البرلمان الفرنسي بالاسمنت … يدل على ان الرسالة موجهة الى عقل فرنسا السياسي بلسان الشعب صاحب السيادة .
تعليقات الزوار ( 0 )