مع سقوط قناع الانظمة الغربية بسبب جائحة كورونا التي ابانت عن سوء التدبير السياسي لقضايا الشعوب، وفقدان الثقة في الطبقة السياسية والفاعلين المتحكمين في العمل السياسي، وهجانة الثقافة المادية الغربية، وما تواجهه الشعوب من مظاهر الأزمة والاحتقان بسبب الاستهداف اللاإنساني لحياة كبار السن، مما ينبئ بثورات من اجل القيم و الاطمئنان واستعادة التوازن بين الروح والمادة، وتخطي الافكار الاجتماعية المادية السلبية، والوقوف في وجه نظريات الفوضى والتفاهة والمآمرة التي تدبر من الخلف، واشاعة ثقافة حقوق الانسان والقيم الكونية الوهمية في الواجهة، وغبن الشعوب بهدف السيطرة على الثروات وتركيز القوة الاقتصادية الغربية بشكل متحكم فيه ومنه التحكم سياسيا في الدول وخلق التبعية والامتثال لقرارات جائرة مقابل تمكين نخبة من الوصول الى السلطة.
وبتعميق النظر في الكيفية التي تدار بها شؤون الدولة والوقوف عن سبب الأزمات و سبل تجاوزها من خلال تقديم نقد ذاتي والتفكير في بدائل تساعد على تخطي الأزمات بأقل الأضرار ، وتغيير التدابير الآنية بالتدابير البعيدة المدى، انطلاقا من الإمكانيات المتاحة وتطعيمها بما يقوي تحقيق الأهداف وفي زمن مناسب، وبالتالي تصحيح وضعية الدولة انطلاقا من تحدي ضغوط الواقع الدولي ومن ضغوط الواقع المأزوم الذي تتخبط فيه البلاد، فان الأمر يتطلب استعادة التواصل المفقود بين الدولة والمواطن، واستعادة احتضان الدولة للمواطنين وتصحيح المسؤوليات لجميع الهيئات، وتوسيع الحكامة الاجتماعية بما يتوافق مع الحياة الكريمة التي تتعايش لا قدر الله مع القوة القاهرة والأزمات الخارجة عن الإرادة كأزمة جائحة كورونا كوفيد 19.
ان من أهم عوامل مواجهة الأزمات في المغرب المبادرات الملكية الرسمية والدينية والإنسانية، والفضل في ذلك يعود الى مؤسسة البيعة التي تجستجمع قوة الدولة المعنوية وتوكل الى أمير المؤمنين أمر صون هوية الوطن ومعتقد المواطنين، وان كان دستور 2011 خص النظام الملكي بوجهين من خلال الفصل 41 والفصل 42.
ان الوجه الديني الاسلامي الذي تشخصنه عقيدة الملك الشخصية و تدل عليها الشعائر الدينية بشقيها التقليدية والمعاصرة كلها تجد سندها في حقل امارة المؤمنين المحتضن لكل مكونات الدولة والذي يفرض احترام الدين الرسمي للدولة.
وانطلاقا من ازمة الجائحة العالمية التي صدمت الدول وابانت عن فشل المرجعيات والادعاءات السياسية والمذهبية، وانهارت بسببها الديمقراطية الحرة او الليبرالية، يطرح اليوم الاسلام كبديل حقيقي لحل المشاكل التي تعانيها هذه الشعوب على المستوى الاجتماعي والنفسي والاقتصادي، حيث ان المواطنين وشعوب بدأت تتجه نحو الاسلام واعلان رفع الاذان في الكنائس والمساجد ودخول عدد كبير من الناس في الاسلام دون اي اصطدام مع التعبير التعددي لتيارات الرأي والفكر … لهذا فان الظرفية مناسبة لتفعيل الملكية الاسلامية المتشبعة بالتضامن والتكافل وصيانة أمن الشعوب الروحية وترسيخ مبادئ التسامح والتعايش والانفتاح والمواقف الانسانية والتضامن المجتمعي التي جاء بها الدين الاسلامي، و منه بر الوالدين والاحسان اليهما وعدم الاساءة اليهما عند كبر سنهما عكس ما ابان عنه مخطط فيروس كورونا الذي يستهدف كبار السن بدرجة كبيرة.
ان السياسة الدينية كسياسة عمومية يمكنها ان تكون بديلا لحل الازمات ومواجهة حالات الطوارئ والكوارث، ما دام الانسان محور الاسلام وهو المتضرر في جميع الاحوال، وقد ابانت حالة الطوارئ الصحية عن كون المجهودات التي بذلت خرجت عن الاطارات القانونية الصلبة، وتغلبت الأخلاق وروح المواطنة والتضامن التي تستمد طاقتها من الدين الاسلامي والانتماء الهوياتي الحضاري للشعب المغربي، وشجاعة السلطات والتزام المواطنين وترديد النشيد الوطني بشكل جماعي في بعض المدن والتذرع الى الله برفع الدعاء لرفع الوباء وتشبثهم بدينهم دليل على ذلك.
ان الملكية الاسلامية نبتة مغربية عريقة، كما نص الدستور في الفصل 41 على ان الملك أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين…. يمارس الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين … بواسطة ظهائر.
وعليه فان حقل امارة المؤمنين له بنية مؤسساتية مهمة تتمثل في شخص الملك أمير المؤمنين المؤتمن على الشؤون الدينية والناظر الأعلى للأوقاف ومنه الشعب المغربي الذي يمكنه ان يستفيد من صرف الزكاة على الفقراء. فأمير المؤمنين هو رأس الهرم الديني وقراراته لا تقبل الرفض ويتوفر على بنية مهمة لتوسيع السياسة الدينية الاجتماعية، مثل الحاجب الملكي والمجلس العلمي الاعلى ووزارة الاوقاف ومجلس العلماء ومستشاري جلالته في الشأن الديني، فالعمل الديني الاجتماعي في الظروف الطارئة وغيرها اضافة الى الشق الشعائري والروحي والاداري والأمني الديني والفقهي كلها ستقوي من الأمن الغذائي والروحي عند المغاربة وكذلك الموالين لأمير المؤمنين على المستوى الدولي ، وتخفف الألم وتحل كثير من القضايا ما دامت الأمة تستند في حياتها العامة على ثوابت جامحة تتمثل في الدين الاسلامي السمح.
ونظرا لسمو تمثيلية أمير المؤمنين للأمة وله سلطة اتخاذ اصدار الظهائر في الشأن الديني تعيينا ومهاما وفتوى الى جانب مهام الملك كرئيس للدولة كرئاسته للمجلس الوزاري ولكونه القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية ورئيس المجلس الأعلى للأمن وله من المؤسسات ما يمكن تفعيل صلاحياته في الظروف الطارئة بطريقة مختلفة، مثل الديوان الملكي ووزارة القصور والتشريفات والأوسمة ومستشاري جلالته في مختلف المجالات وولي العهد ورئيس الحكومة الذي ينوب عن الملك في شق رئاسة الدولة، مما يبين ان الثوابت الوطنية كلها تجتمع بيد أمير المؤمنين.
وتماشيا مع الإجراءات التي اتخذتها الدولة والكيفية التي تم التعامل بها مع الوباء وتدبير حالة الطوارئ الصحية التي ابانت عن حنكة وحكمة وتبصر أمير المؤمنين الذي فضل حياة المواطنين على الاقتصاد والسياحة والتجارة وكل الأنشطة ….واعطى أوامره للسلطات الإدارية والأمنية بما قيها الجيش لتغطية حالة الطوارئ الصحية ووسع من الخدمات الطبية المدنية والعسكرية بكل الوسائل الممكنة للتصدي للجائحة واستقبال المرضى وانقاذ ما يمكن انقاذه من الذين تعرضوا للإصابة بالفيروس.
كما ان فكر امير المؤمنين أوجد صندوق التكافل لمواجهة جائحة كورونا، والمساهمة الشخصية التي كشفت عن الملك الإنسان و المهتم والمتضامن والمبادر للأولويات التي تخدم الشعب والإنسان، وذلك ما قلص من آثار فيروس كورونا وأعاد الثقة الى مكانها بعدما كانت مفقودة في كثير من مؤسسات الدولة، بما يمكن معها احداث التغيير والانتقال الى مستوى افضل للحياة العامة مع تظافر الجهود لمواجهة مرحلة ما بعد الأزمة.
ان الوضعية الحالية تقتضي تفعيل أدوار الملك الدينية لأن السياسات العمومية المعتادة أوقفتها أزمة كورونا كوفيد 19، بينما الحياة لم تتوقف وخضعت لضوابط حالة الطوارئ الصحية، التي اوقفت الخلافات وكل المزايدات التي كانت تعبر عن كون الدولة مجرد شركة او مقاولة او شرطي وحكم يدير اخطاء المتخاصمين، بل تدخلت وقامت بدور المنقذ للموقف من كارثة بشرية كانت ستحل بالشعب المغربي عكس باقي الشعوب بما فيها المتقدمة التي تعيش حالة غير مسيطر عليها. واصبحت المقاربة المغربية نموذجا تتداوله وسائل الاعلام الغربية واعتبرته درسا في التعليق على اهمال السلطات في الدول الغربية للتدابير الوقائية الاستباقية في الوقت المحدد.
وقد اعيد للسلطة الاعتبار الحقيقي لكونها تسهر على الأمن والطمأنينة الشيء الذي عمق الوعي بالغاية من وجودها وبأهميتها في تدبير شؤون البلاد وقد لقنت المواطنين درسا من دروس التربية الوطنية.
ان امارة المؤمنين بامكانها توفير الأمن من الخوف والاطعام من الجوع، تحقيقا لقوله تعالى “ … الذي اطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”.
كما ان التدبير الوقائي لهذه الظرفية وتعميق التفكير في المستقبل، يجب ان يعتمد على القطع مع التهور والمخاطرة والتركيز على العنصر البشري المتشبع بروح الوطنية والقادر ، واعتماد سياسات وطنية اقتصادية اجتماعية لتحقيق الاكتفاء الذاتي والانخراط المسؤول والواعي من قبل كل المكونات المجتمعية، والأخذ بعين الاعتبار الممكنة في المستقبل والاكثر تعقيدا من التي يعيشها العالم اليوم ، حيث سرعان ما تنقضي ازمة حتى تظهر ازمة اعمق واعقد.
ان الملكية الاسلامية لها من الامتداد الجغرافي والروحي والمادي والانساني ما يكفي لتغيير طرق التصدي بكل الوسائل الممكنة للأزمات والتأطير لكل المكونات الوطنية باسم الدين والوطن والثقافة والاخلاق والانسانية من اجل تقوية التضامن المفضي الى التخفيف من أثر الازمة. وتغيير التناقضات التي كانت تعتمد لضبط التغيير السياسي لكون الدولة ضامنة لاستمرار المرافق والخدمات العمومية. واسترجاع الدولة لوظائفها الاجتماعية بعدما فشل المذهب الليبرالي في ضمان الأمن والطمأنينة والسعادة الواهمة لفئات كبيرة من المجتمعات الغربية. وعودة الدولة الاجتماعية الإسلامية ستخفف من الصراعات السياسية وستحد من بطء السياسيين في تحقيق المطالب، وسينمو الاقتصاد الذي يصمد في وجه الأزمات كاقتصاد مقاومة الأزمات وسيقوي من الأمن الصحي ضمن أولويات دور الدولة الاجتماعية التي تتأطر ضمن الملكية الإسلامية التي ستكون عنوانا لمرحلة الملكيةالثالثة في المغرب.
الدكتور احمد الدرداري رئيس المركز الدولي لرصد الأزمات واستشراف السياسات.